درنـة عبر التاريخ
أصــل الاســـم :
لم يرد أسم ( درنه ) علماً لمدينة أو لموقع فيما كتبه المؤرخون القدامى الذين تحدثوا عن إقليم ( برقة ) قبل منتصف القرن السادس ( ق . م ) أي قبل هجرة الثيريين إلى جزيرة ( بلاتيا ) ( PLATEA ) الواقعة شرقي مدينة ( درنة ) بنحو 60 كيلوميتر وهي ما تسمى الآن ( البمبة ) أو ( خليج البمبة ) .
ويرى بعض المؤرخون أن درنة كانت عامرة قبل مجيء الإغريق وكانت تعرف باسم ( إيراسا ) ( IRASA ) واتخذها الليبيون عاصمة لما يسمى ( مرماريكا ) غير أنه لم يذكر شيئاً عن هذه الدولة التي اتخذت إيراسا عاصمة لها لان وجود عاصمة يدل على وجود دولة . ويرى البعض الآخر أن ( إيراسا ) قد تكون هي درنة وقد تكون قرية ( عين مارة ) الواقعة غرب درنة بحوالي ( 20 كيلومتر ) والواقع أن أسم إيراسا قد ورد عند قدوم جماعة ( الثيريين ) إلى ( خليج البمبة ) واستيطانهم بالجهات المجاورة لهذا المكان أول ما نزلوا وقد نشأت بينهم وبين الليبيين من قبيلة ( الجيليغامي ) التي كانت منازلها في هذه البقاع علاقات من التعارف والجوار ، غير أن أبناء هذه القبيلة خشوا أن يقع نظر هؤلاء الوافدين على ( إيراسا ) فيتخذونها لهم موطناً ومقراً ، ورأوا أن يبعدوهم عنها فنصحوهم أن يتحولوا إلى مكان آخر أكثر ملائمة ، فساروا بهم ليلاً حتى اجتازوا هذه البقعة ثم دلوهم على المكان المجاور لنبع ( شحات ) فاستقر بهم المقام هناك ، فكانوا النواة الأولى لازدهار الحضارة الهيلية في الجزء الشرقي من ليبيا.
درنة في عهد البطالمة :
أول من ذكر اسم درنة هو ( بطوليمس : ويسمى كلوديوس بطيلموس ، وهو من غير أسرة البطالمة الذين حكموا مصر بعد موت الإسكندر ، وانما هو فلكي وجغرافي ظهر في القرن الثاني للميلاد وألف كتاباً في الجغرافيا ) وقد قال في كتابه الرابع ( إن برقة تنتهي شرقاً مع حدود ( مارماريكا ) على السمت من منفذ درنة وشمالاً عند خط طول ( 51.15 ) وعند خط عرض ( 25 ) .
وقد كان البطالمة كثيراً ما يسمون المدن التي ينشئونها أو وقعت تحت حوزتهم بأسماء ملوكهم وملكاتهم أو بعض معبوداتهم ، ولم يعرف عن معبود أو حاكم أو ملك أو ملكة من اليونان سواء في عهد اليونان الأول أم في عهد البطالمة يحمل أسم ( دارنس ) مما يرجح أن هذه الاسم ليبي الأصل أبقاه البطالمة على أصله القديم وأضافوا إليه حرف ( S ) الذي هو علامة الرفع للاسم المذكر في اللغة اليونانية .
يقول الأستاذ : علي فهمي خشيم في بحث تاريخي له بعنوان ( قراءات ليبية ) :
(( أما دارنس فهي مدينة درنة الحالية وهي كلمة ليبية أيضاً ربما تعني ( بين الجبال ) أو (وسط الجبال ) كما هو موقع درنة ، ولا تزال كلمة ( أدرار ) القديمة تعني الجبل ، وتعني كلمة ( الأدورماخيداي ) أهل الجبل أو سكانه )) .. ويستطرد قائلاً .. (( ولقد تتبع بيتس في كتابه الكبير ( الليبيون الشرقيون ) أصول اللغة الليبية القديمة وما بقي منها فوجد كلمة ( إيراسا ) ، والتي ذكر هيرودوت أن اليونان هبطوا فيها قبل ( قورينا ) تعني المهبط أو المرسى )) .
وهناك كلمة أكثر وضوحاً وأقرب إلى الدلالة وهي كلمة ( دَرَن ) أو ( دِرِن ) التي تعني الجبل في اللغة القديمة .. هذا وهناك أدلة أخرى تثبت أو ترجح أن درنة اسم من أصل ليبي قديم لا من أصل يوناني منها ورود اسم درنة أو دارنس مقروناً بلفظة ( زيرينا ) ، وهي أما صفة لاسم درنة أو مضاف إليه من اسم ( أزيريوس ) وهو معبود أسطوري مصري قديم انتقلت عبادته إلى الليبيين ، ولاسيما القاطنين في الشق الشرقي من ليبيا .
http://dernacity2.malware-site.www/map1.JPGhttp://dernacity2.malware-site.www/map2.JPGhttp://dernacity2.malware-site.www/map3.JPGدرنة في العهد الروماني :
انتقل حكم إقليم برقة من أيدي البطالمة – خلفاء الإسكندر إلى أيدي الرومان منذ سنة 96 ق.م وذلك بعد موت ( بطليموس أبيون ) آخر ملوك برقة من البطالمة والذي أوصى قبل موته بأن يكون إقليم برقة تابعاً لروما ، وبذلك أصبحت ليبيا بشقيها الشرقي والغربي ولاية رومانية بيزنطية .
أما عن انتشار الديانة المسيحية بين السكان في هذه البقاع وما جاورها بعد اعتناق الرومان لدين السيد المسيح عليه السلام ، فهذه البقعة وما جاورها – يعني درنة وما جاورها – لم تخل من السكان حتى الغزو العربي ، وأنها كانت مقر ( أسقفية ) منذ القرون الأولى من العهد المسيحي ، ومن المحتمل أن المغارات الواقعة في المنطقة الصخرية ، شرقي المدينة والتي لا تزال باقية ، تحمل اسم موضع الصلاة لقدامى المسيحية ، حيث أن هذه المغارات تسمى ( الكنيسية ) وكلمة ( الكنيسية ) مشتقة من أصل لاتيني ( Ecc’sia ) .
غير أن المسيحية لم تنشر بصورة عامة في ليبيا إلا في عهد ( يوستينيا نوس ) الذي اعتلى عرش القسطنطينية سنة 533 م ، والذي وجه عناية كبيرة إلى تحصين المدن والقرى ، وغلى تشييد الأديرة والكنائس وخاصة في إقليم برقة ، وحمل السكان ، وحتى اليهود على اعتناق المسيحية ن ونبذ كل عبادة سواها ، غير أن هذا لا ينفي ظهور المسيحية وانتشارها منذ القرون الأولى لظهور المسيحية .. فمثلاً هناك ( سمعان القوريني ) نسبة إلى قورينا ، أو جاء إلى هذه النواحي للتبشير بدين المسيح ، وهناك القديس أو الحواري ( مرقص ) ( سان مارك ) صاحب الإنجيل المسمى باسمه ، والذي أسس أول كنيسة في إقليم برقة على ما يذكره الباحثين والذي ينسب إليه ( وادي مرقص ) الواقع بين مدينة درنة وبلدة سوسة ، وكذلك قدوم جماعة أخرى من الرهبان والقسيسين إلي هذه المناطق يدعون للمسيحية ويتخذون من الكهوف والمغارات أديرة وصوامع للعبادة كما في المغارات الواقعة شرقي درنة المسماة ( الكنيسية ) وكذلك يوجد إلى الجانب الشرقي من هذه الكنيسية بنحو ( 15 كيلومتر ) كهف يسمى ( كهف الراهب ) يجاوره نبع صغير اسمه ( أم عمود ) ويذكر عنه بعض الإيطاليين أن الأطفال كانوا يعمدون فيه ( التعميد أو المعمودية عند النصارى : غمس الطفل في ماء باسم روح الأب والابن وروح القدس ، في اعتقادهم ) ، وعلى الشرق من هذه النبع بحوالي ( 8 كيلومترات ) نبع آخر يسمى ( مراد لوقي ) ، نسبة إلى الحواري ( لوقا ) صاحب الإنجيل المسمى باسمه أو نسبة إلى راهب اسمه ( لوقا ) .
وهناك أيضاً ( وادي الإنجيل ) الواقع غربي ( وادي مرقص ) الذي تقدمت الإشارة إليه ( واسقفه ) المجاورة لقرية ( بيت ثامر ) على مسافة ( 40 كيلومتر غرب درنة ) .
وينسب بعض المؤلفين الغربيين ومن بينهم ( دي اغستيني ) خراب الأديرة والكنائس وتقلص المسيحية عن هذه البقاع إلى الفتح العربي الذي جلب الإهمال والخراب – بزعمهم – وهي تهمة باطلة ، أرادوا أن يلصقوها بالفتح الإسلامي لهذه الأرض ، وليس أدل على بطلان هذه التهمة من بقاء المسيحية في الأقطار التي فتحها المسلمون ، وحافظوا على ديانة أهلها ، سواء كانوا يهوداً أو نصارى .
ثم أن تقلص المسيحية في ليبيا بصفة عامة ، لم يحدث نتيجة للفتح الإسلامي ، وإنما حدث نتيجة لغزو الوندال لهذه البلاد ، حيث حملوا على أهلها على ترك النصرانية ، بطريق العنف تارة واللين أخرى ، كما عاثوا في الأديرة فساداً وتخريباً ، ولم ينقذ المسيحيين من تسلط أولئك الوندال إلا الليبيين أنفسهم بقيادة ( كاباون اللواتي ) ، الذي تصدى لمحاربة الوندال وانتصر عليهم وأباد جموعهم ، فلم ينج منهم إلا القليل ، وهذا يبرئ المسلمين من تلك التهمة التي الصقها بهم أولئك المتعصبون من الكتاب والمؤرخين الذين يحاولون تبرئة بحوثهم ودراساتهم من التعصب الديني والقومي .
درنة بعد الفتح الإسلامي :
لم يبرز اسم درنة في تاريخ الفتح الأول لأقطار المغرب ، إذ أن أهل برقة قد صالحوا قائد الفتح الأول ( عمرو بن العاص ) على جزية قدرها ثلاثة عشر ألف دينار ، يقدمونها لبيت المال في مصر كل عام .
ولقد ظل إقليم برقة منذ الفتح الأول إلى عهد ( عبد الله بن أبي سرح ) آمناً مطمئناً باقياً على عهده مع ولاة مصر ، باقياً مع عهده مع مصر ومكث فترة طويلة لا يدخله جابي خراج ، طبقاً لشروط الصلح ، التي عقدت مع عمرو بن العاص .
وفي الثلث الأخير من القرن الهجري الأول ، برز اسم درنة ، حيث استشهد القائد ( زهير بن قيس البلوي ورفاقه المجاهدون من الصحابة والتابعين ، ودفنوا جميعاً بدرنة .
استشهاد زهير بن قيس البلوي ورفاقه في مدينة درنة :
جاء ( زهير بن قيس البلوي ) إلى بلاد المغرب غازياً مجاهداً وأبلى في معارك الجهاد والفتح بلاءً حسناً ، وساهم في تلك الانتصارات الباهرة التي أحرزتها الجيوش الفاتحة ، بجانب ما اشتهر به من التقوى والورع ، وقد صحب عقبة بن نافع ( والي طرابلس وأفريقية ( تونس )) في غزواته ببلاد المغرب وعرف عقبة صدق زهير في جهاده وحسن بلاءه ، فجعله في مقدمة جيشه ولما استشهد عقبة سنة ( 63 هـ ) ، عزم زهير على مواصلة القتال وخالفه حنش بن عبد الله الصنعاني ، وكان من أصحاب الرأي والنفوذ في الجيش ، فعزم زهير على العودة إلى مصر بعد هذا الخلاف ، وتتبعه كثير من الناس غير انه لم يواصل رحيله إلى مصر ، فعرج بمن معه على إقليم برقة ، وأقام بها مرابطاً كما فعل ( عقبة بن نافع ) من قبل إذ أن الرباط باب من أبواب الجهاد .
هذا ولما وصلت أنباء مقتل عقبة وأصحابه إلى ( عبد الملك بن مروان ) استشار أهل الرأي فيمن يأخذ بثأر عقبة ، ويتولى قيادة الجيش من بعده ، فأشاروا عليه بأن ينتدب (زهير بن قيس ) ، إذ هو صاحب عقبة واعرف الناس بسيرته وأولاهم بأخذ ثأره ، وكتب عبد الملك بن مروان إلى زهير في برقة ، يأمره أن يتوجه إلى إفريقية ( تونس ) لقمع ثورة المرتدين والثأر لعقبة بن نافع ، وأمده بالمال والرجال .
خرج زهير على رأس جيش كبير ، حتى بلغ القيروان ( سنة 67 هـ ) وهناك التقى زهير بـ( كسيله ) وجيشه في معركة طاحنة ، أسفرت عن مقتل ( كسيله ) واندحار جيشه ، ودخل زهيراً مدينة القيروان ظافراً منتصراً ، ورأي فيها ملكاً عظيماً ورفاهية وبذخاً فخاف أن تميل نفسه إلى الحياة والترف والرفاهية ، أو أن تطمع إلى الحكم والولاية ، وهو إنما جاء للجهاد في سبيل الله ، ولما يبق أمامه إلا أن يرجع إلى ارض المشرق التي عاش فيها حياة الزهد والعبادة وقد رافقه في رجوعه جماعة من كبار المجاهدين .
وصادف أن أغارت سفن رومانية على شاطئ ( درنة ) وعاثت في المدينة قتلاً ونهباً وسبياً ، وتلقى زهير وأصحابه نبأ هذه الغارة وهم يسلكون طريق الصحراء الشرقية من برقة فلووا أعنة خيولهم نحو الساحل، ولما دنوا من المراكب المغيرة رآهم الأسرى الذين وقعوا في قبضة المغيرين ، وهم يقادون إلى المراكب مكرهين فاستغاثوا بهم ، فثارت حمية زهير ونادى أصحابه ، فنزلوا عليهم وهم العدد القليل ، واشتبكوا مع الروم المغيرين واستبسل زهير ورفاقه ، ولكن جموع الروم أحاطوا بهم من كل جانب فاستشهد زهير ورفاقه في ساحة المعركة الغير متكافئة ، وتمكن الروم من النجاة واقلعوا بمراكبهم يحملون الأسرى والغنائم ، ودفن زهير وصحبه في البقعة التي عرفت باسم ( جبانة الصحابة ) بمدينة درنة .
وهذا وقد شرفت البقعة التي ضمت رفات ( زهير بن قيس ) ورفاقه بمدينة درنة فكانت ومازالت مقصداً للزوار من سكان المدينة والقادمين إليها يتبركون بهؤلاء الشهداء الأبرار ولاسيما إنهم من صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن التابعين له رضوان الله عليهم جميعاً ، وقد برز من بين رفاق زهير الذين استشهدوا معه مجاهدان كبيران هما : ( عبد الله بن بر القيسي ) ، و ( أبو منصور الفارسي ) .
وقد شيدت ( بجبانة درنة ) ثلاثة أضرحة وهي ذات قباب من الطراز المعروف في بناء اضرحة الأولياء والصالحين ، الضريح الأول ( لزهير بن قيس ) ويقع على يسار الداخل ، يليه الضريح الثاني وهو ( لعبدالله بن بر القيسي ) ، والثالث ضريح ( أبي منصور الفارسي ) يقع على يمين الداخل ، وبابه لجهة الغرب ، وبين هذه الأضرحة الثلاثة في مواجهة الداخل مبنى يشبه الحجرة الصغيرة ، قد أقيم الثلاثة على مدخل المغارة ، التي دفن فيها بقية الشهداء من رفاق ( زهير بن قيس ) ويبلغ عددهم نحو ( سبعين ) على أصح الروايات ، وقد تم تشييد هذه الأضرحة في القرن الحادي عشر الهجري .
التعريف بهؤلاء الشهداء :
فى الجزء الثانى